أ.د. عبدعلي كاظم المعموري
شكلت مخرجات الحرب العالمية الأولى حافزاً كبيراً للولايات المتحدة الأميركية في التطلع نحو قيادة الغرب والعالم، لهذا عندما يتم العودة إلى نهاية عقد العشرينات من القرن الماضي، وبيان الكيفية التي تسببت بحدوث ما سمي أزمة الكساد العظيم 1929-1933، ونمط وطبيعة السياسات الأميركية التي جرى اعتمادها إزاء الدول الأوربية بخاصة والعالم عامة، ويستخلص الباحثين في التاريخ أو السياسة وحتى الاقتصاد، بأن الولايات المتحدة قد خططت بدقة لقيام الحرب العالمية الثانية، حتى تتخلص بشكل تام من المنافسين الغربيين لها وعلى رأسهم (ألمانيا).
كما أن العودة ايضاً للتاريخ، تجعلنا نقف عند سبب عدم موافقة الكونجرس على التصديق على عصبة الأمم التي تبناها وروج لها الرئيس الأميركي وودر ويلسون آنذاك، لهذا ذهبت في العقد الثلاثيني من القرن العشرين إلى التهيؤ لمرحلة الحرب وما بعدها في اقتراح منظمة الأمم المتحدة كبديل عن العصبة، وأن هي فقط من تكون له اليد الطولى في أنشاءها واستضافتها ووضع بنود وآليات عملها بجانب ثلاثي السيطرة الاقتصادية (صندوق النقد الدولي- البنك الدولي للإنشاء والتعمير- منظمة التجارة العالمية)، ومعهم فرضت الدولار كعملة تسويات دولية واحتياطي لعملات الدول. جميع هذا لم يكن مصادفة أو هو نتاج مفاوضات أو ترتيبات أجرتها الدول، بل الفيصل فيها أن (القوة هي الحق).
وجعلت من الأمن والسلام وحق البشرية في العيش بوئام وطمأنينة من دون حروب وعنف واحترام حقوق الإنسان وحريته واعتماد الديمقراطية كنمط لنظم الحكم وهذه عدتها مثل للولايات المتحدة ورسالتها المكلفة بها نحو البشرية، والحقت هذه التوجهات العامة باتفاقيات فيما يخص حقوق الطفل والشعوب تحت الاحتلال وجرائم الإبادة والحرب، وضمنتها بإلزام الدول الموقعة على الميثاق، وانضمت إلى الأمم المتحدة على تنفيذ كل هذه الاتفاقيات، وإلا فهي معرضة للمساءلة واتخاذ إجراءات بالضد منها، وبعضها يقع تحت البند السادس لمجلس الأمن (الجهة المكلفة والفاعلة بمراعاة تطبيق القانون الدولي وفرض العقوبات على الدول التي لا تمتثل له)، حتى أن بعضها يقع تحت البند السابع مما يتطلب تطبيقه بالقوة المسلحة.
ومن حصيلة التطبيق الفعلي لما سمي بالشرعة الدولية وما يرافقها من المفاهيم الإنسانوية، التي عدتها الولايات المتحدة وأخواتها الغربيات مثابات حضارية، يراد لإشعاعها إنارة كل بقاع الأرض وشعوبها، إلا أن مخرجات كل العقود الماضية من السنين، كشفت زيف كل ذلك سواء في أطار المؤسسات الأممية أو للولايات المتحدة وأذنابها الغربيات، فالثابت أن كل تلك القوانين الدولية والاتفاقيات والمحددات التي استهلكت الآلاف من المواد والفقرات والقرارات والأوراق، قد استوجب تطبيقها على الدول الفقيرة (دول عالم الشرق/ الجنوب) ممن صدقوا الرواية الغربية، ومن دون أي مناقشة أو اعتراض، فيما تصبح الولايات المتحدة وحلفاءها وأصدقاءها معفيين من تطبيقها أو الامتثال لها.
وعندما يكون تاريخ الممارسة للولايات المتحدة الأميركية والدول الأوربية والدول الأخرى التي تسير في فلكها، شاهداً على عدم الامتثال للقانون الدولي، وتستخدم الخداع والمراوغة وأحياناً الانسحاب من بعض هذه الاتفاقيات تحت مختلف الحجج، تكون البشرية بإزاء عالم منقسم، بعضه خاضع للقوانين وملزم بالتطبيق، والأخرى غير خاضعة ومنفلتة، يحق لها تجاوز كل ما تم الاتفاق عليه من ترتيبات ناظمة لعلاقات وتفاعلات الدول فيما بينها .
ولعل ابرز فضاءل (حرب غزة) أنها ساهمت بكشف كل العورات الأميركية والغربية، وإزالة كل الحجب التي كانت تخفي ما وراءها، وبخاصة حقوق الإنسان التي جعلت منها الولايات المتحدة تعويذة وحجة للتدخل في مختلف الدول وأسقاط نظمها ومحاصرة وتجويع شعوبها وتسميتها بالدول المارقة أو الشريرة أو الارهابية… الخ.
هكذا أشاح كل الغرب بوجهه الكالح عما يجري في غزة، وساند بقضه وقضيضه (الكيان الصهيوني)، وداس بقدميه على كل ما كتبه في المواثيق والاتفاقيات، وكشف عن زيف كل العناوين التي كان يصدرها كمفاهيم معلبة وفاسدة لعالم الدول النامية وشعوبها، وثبت من دون أي لبس بأن الغرب (أميركا وأوروبا)، تصنف البشر على الأرض درجات ومنازل ومراتب، وأن المساواة بين البشر والشعوب والدول على أرض الواقع، أكبر أكذوبة تم تمريرها على العالم برمته.
لقد قبل الغرب الرسمي وبعض من شعوبه أن الأخر وأن كان بهيئة أنسان، إلا أنه متوحش وبربري أو حيوان، لذا فهو لا يماثل لا الغربي ولا اليهودي، متبنين الرؤية التوراتية التي زيفها الحاخامات، فالدولة العبرية تعتمد في سلوكها ومواقفها على أساطير وحكايات وسرديات توراتية، وهي بذلك غير ملزمة بالقوانين الدولية والاتفاقيات والحقوق التي جاءت في أطار التنظيم الدولي، وهو ما يفضح الخطاب الغربي من كون دولة (إسرائيل) دولة حضارية وديمقراطية. وفي حقيقة الأمر هي دولة لا تحترم القانون الدولي، فهي لا تعترف باي حدود، وتراها مؤقتة وأن أجيالها المتعاقبة هي من تقرر الحدود مع الأخرين بحسب حاجتها إلى (المجال الحيوي)، تماثلاً مع النازية، كما أنها دولة عنصرية بالفطرة، وأنموذج مستديم للابرتهايد.
وبهذا فأن هناك ازدواجية مترسخة في العقل والذهنية الغربية، ولا تتصل فقط بالجانب السياسي بل بالانثروبولوجيا، وهذا حمل معه بعداً أخر تمثل بأن هناك دول وشعوب، يجب أن تكون خاضعة لما يريده الغرب ويشترطه ويقننه، وأخرى غير خاضعة (منفلتة)، كما هو حال كيان إسرائيل ومستوطنيه ومرتزقته. فهم فوق القانون الدولي وخارج المحاسبة والإدانة الدولية.
وهكذا ففي (حرب غزة – طوفان الأقصى)، أستدعى الغرب كل تاريخية الشرور والهمجية والإبادة والقسوة والعنصرية، التي مارسها بحق شعوب أفريقيا والشعوب الأسيوية إلى شعوب الأميركيتين. وليقدم موقفاً صادماً ينسف كل معطيات وركائز القوة الناعمة التي أريد توظيفها وتمريرها بوساطة المغربنين أو الذين يطلق عليهم الناشطين أو مناضلي الحقوق والحريات زيفاً، والتي تصطادهم الوكالات والهيئات الأميركية المعنية باختراق المجتمعات وفق الأجندات الأميركية وتجندهم كمتعاونين.
عندئذ يصبح معيار الموقف إزاء الغرب (الأميركي والأوربي) وقاعدته المتقدمة إسرائيل. سواءً (لنظام/ دولة) أو شخص أو حركة أو حزب يحمل معنين، مدلولاته أما أن يكون معادياً للغرب أو مرضياً عنه، ولن يكون هناك خياراً بينهما، فهو خيار واحد فقط، إما كسب الشرف عندما تكون مقاوماً وذئباً أجرداً، أو منزوع الشرف عندما تكون ذليلاً وتابعاً وخادماً للغرب.